أهداني الدكتور حسام بدراوي كتابه "التعليم الفرصة للإنقاذ" خلال حضوري لأحد الصالونات الثقافية العامرة التي ينظمها الفنان والكاتب الدكتور حسين نوح، وهو تقليد بات يمثل نافذة مضيئة للحوار الفكري والفني والسياسي، يجتمع فيه رموز من مشارب متعددة ليثروا النقاش حول قضايا الوطن. لا يسعني هنا إلا أن أتوجه بخالص الشكر للدكتور حسين نوح على هذه الفرصة التي جمعتني بلقاءات ثرية، كان في مقدمتها اللقاء بالدكتور حسام بدراوي، وبحضور شخصيات رفيعة المقام مثل الإعلامي والكاتب محمد الغيطي، والناشرة فاطمة البودي، والكاتبة فاطمة ناعوت، والكاتب الصديق عصام نجيب، والمثقف والسياسي أسامة كامل رئيس حزب مصر الفتاة، والفنان القدير شريف خيرالله، والصديق المخرج أحمد فتحي شمس، إلى جانب باقة من المثقفين والنخب الذين انتقاهم الدكتور نوح بعناية فائقة، فجاء الصالون بحق صورة مصغرة من مصر المتنوعة الغنية بعقولها وإبداعاتها.
ولم يكن لقائي بكتاب الدكتور حسام بدراوي حدثًا عابرًا، بل كان بداية رحلة فكرية مكثفة. فما إن وصلت إلى منزلي حتى بدأت في قراءة الكتاب، ولم أستطع أن أخلد إلى النوم إلا بعد أن التهمت صفحاته كاملة. لم يكن الكتاب عادياً، بل كان أشبه بصرخة عقل وضمير، وصيحة إصلاحية تنبه وتحذر وتبشر في آن واحد، تؤكد أن فرصة الإنقاذ ما زالت قائمة، بل قد تكون الفرصة الأخيرة، إذا أحسنا استغلال روافعها الكبرى: العلم والمعرفة، البحث والابتكار، الجودة والدقة، الشغف والإصرار، المقاومة والصمود.
في مقدمة الكتاب يوضح الدكتور بدراوي أن أي فكرة عظيمة مآلها النسيان إن لم تتحول إلى فعل في المجتمع أو تُوثق في كتاب يمنحها الحياة. ومن هنا تأتي قيمة هذا العمل؛ فهو ليس مجرد دراسة نظرية، بل شهادة تاريخية وتجربة حياة سياسية ومهنية وأكاديمية ثرية، تستند إلى معايشة الواقع المصري بكل تعقيداته، وفي الوقت ذاته تفتح آفاقاً واسعة للتفكير في المستقبل.
الكتاب يبدأ بفصل عام عن النهضة والأمل في الإصلاح، يضع فيه اثنتي عشرة دعامة يرى أنها أساس أي نهضة، تتخللها جميعاً الثقافة والتعليم. ثم تتوالى الفصول لتناقش قضايا مركزية: الجامعات ودورها كبناة حضارة لا مجرد مقدمي خدمة، إصلاح التعليم العالي وربطه بالمعايير العالمية، البعثات الخارجية كطريق للتنوير، الحياة الطلابية بوصفها محور بناء الشخصية، التعليم الفني والتدريب المهني كركيزة للتنمية، المعلم أساس التطوير، الإطار الوطني للمؤهلات، الجامعات الخاصة، تحديات التطبيق، الفرص الضائعة، ثم قضايا الهوية وتكامل نظم التعليم، وصولاً إلى علاقة التعليم بالمواطنة، ومكافحة الفساد في المنظومة التعليمية، وختاماً بفلسفة الجمال في التعليم.
إن ما يميز هذا الكتاب أنه لا يكتفي بالتشخيص، بل يضع السياسات والحلول، ويستند إلى خبرة عملية تراكمت عبر عقود من العمل السياسي والأكاديمي والطبي والاجتماعي. وقد استوقفني بوجه خاص الفصل الخاص بالفرص الضائعة، لأنه يجسد بدقة كيف أن تأجيل التنفيذ أو تحريفه يبدد طاقات أمة بأكملها، ويعيدنا إلى المربع الأول. كما أن إشاراته المتكررة إلى ضرورة الاستقلال الأكاديمي، والنزاهة المؤسسية، والارتباط بسوق العمل، تجعل من الكتاب خريطة طريق واضحة لأي إصلاح حقيقي.
لقد جاء "التعليم الفرصة للإنقاذ" في لحظة فارقة؛ فهو كتاب تبصير وتحذير في الوقت ذاته، يضع أمامنا مرآة صافية تكشف بوضوح أن معركتنا الحقيقية ليست فقط مع مشكلات التمويل أو البيروقراطية، بل مع عقلية الجمود والتكرار التي تدور في دوائر مغلقة منذ عقود. وهو كتاب يؤكد أن انتصار مصر في معركتها ضد الجهل والمؤامرات والتراجع الحضاري لن يتحقق إلا من خلال التعليم بمعناه الشامل: تعليم يبني الإنسان الحر، المثقف، المبدع، المحب للجمال، المرتبط بهويته، المنفتح على العالم.
إنني أرى أن هذا الكتاب يجب أن يُقرأ بعناية من قبل كل مسئول وصانع قرار، وأن يُعتمد كمرجع أساسي في صياغة سياسات التعليم في مصر. بل إن من الواجب أن تضعه الدولة ضمن أولوياتها في خطط الإصلاح، لأنه لا يطرح فقط رؤى جريئة، بل يقدم حلولاً واقعية وقابلة للتنفيذ، مدعومة بشواهد وتجارب. إنه كتاب يجب أن يُدرّس للنخبة الإدارية في وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، وأن يُناقش في الجامعات ومراكز البحث، لأنه ببساطة ليس مجرد كتاب في التعليم، بل مشروع إنقاذ وطن.
لقد خرجت من قراءة الكتاب أكثر يقيناً أن مصر تملك فرصة حقيقية، لكنها مشروطة بقدرتنا على تحويل الرؤية إلى فعل، والإرادة إلى سياسات، والسياسات إلى إجراءات عملية. عندها فقط يصبح التعليم مفتاح النهضة ودرع الإنقاذ، وتصبح كلمات الدكتور حسام بدراوي صدى لصوت المستقبل الذي ينتظرنا.
ولذلك فإن دعوتي المباشرة من خلال هذا المقال أن تتبنى الوزارات المعنية والبرلمان المصري هذا الكتاب كوثيقة عمل رسمية، وأن يُوضع على مائدة اللجان التعليمية والبحثية، ليكون مرشداً في رسم سياسات التعليم للسنوات القادمة. فليس أمامنا ترف الانتظار، ولا رفاهية إعادة إنتاج نفس الأزمات. إن "التعليم الفرصة للإنقاذ" ليس مجرد عنوان، بل هو رسالة بليغة إلى الدولة والمجتمع: أن التعليم هو طريقنا الوحيد للنهضة، وأن مصر لا ينقصها سوى الإرادة لتحويل الرؤية إلى فعل.