"سخرية القدر".. أبسط تعبير يجسد مختلف معاني التهكم في حد ذاته، يمكن اختزاله في "تريقة" عابرة لموقفين حدثا في نفس التوقيت، ليشاء القدر أن يصل نصيب أحدهما إلى النجوم ويخسف بالآخر في سابع أرض، وهو أبسط ما يمكن استخدامه لتلخيص حكاية شيخين، جمعهما شغف الإنشاد الديني وعشق الصوفية، وفرقهما التقدير، خسر أحدهما منصبه وتم محو تاريخه بأستيكة قرار متعنت والتهمة غنائه، وأعطي الآخر قبلة شكر لغناه.
نبدأ بالجانب الإيجابي من القصة، مع الشيخ محمود التهامي، أحد أبرز أيقونات الإنشاد الديني في مصر، ويعتلي بجدارة كرسي نقيب المنشدين، أسر قلوب الآلاف بروائع أغانيه "زدني بفرط الحب" و"قمر سيدنا النبي"، وحتى دويتو "يا ملك" الذي جمعه مع المطربة مي فاروق، تمكن التهامي من الوصول إلى مصاف العالمية وتفصله بضع خطوات لحفر اسمه في التاريخ الموسيقي المصري بالحصول على جائزة الجرامي العالمية، بعد مشاركته مؤخرًا في ألبوم "الأصل"، مشروع موسيقي أمريكي عالمي، ضم 9 أغنيات غلب عليها طابع المزيكا الروحانية، ووضع فيها التهامي بصمته الخاصة بثلاثة أغنيات، "حب إلهي" و"bolero" وأغنية "cairo morning"، تعاون فيها مع الموسيقية الأمريكية إليز ليبيك.
حصل الألبوم على إشادات إيجابية حول العالم، اختتمت بحصوله على جائزة "جلوبال ميوزيك أوورد"، في نسخة هذا العام، وتم ترشيح الألبوم ليكون ضمن الترشيحات الرسمية العالمية لنيل جائزة الجرامي، أكبر وأعرق جوائز المزيكا حول العالم، في نسختها الستين العام المقبل، وهو ما يمثل تقدير عالمي يسجل في التاريخ المصري عن جدارة، بمشاركة منشد مصري في عمل يترشح لهذه الجائزة يسلط الضوء العالمي على مجال الإنشاد الديني بشكل عام، وعلى مصر بشكل خاص، يقول التهامي لـ"عين": "فخور بإني قدرت أوصل الإنشاد الديني لمصاف العالمية، وكونها تعتبر أول جائزة عالمية يحصدها عمل إنشادي، وسعادتي أكبر بتمثيل مصر في المشروع ده، وإن اسمي ينكتب في المواقع العالمية اللي كتبت عن الألبوم".
ومن جانب آخر، بعيد كل البعد عن فكرة التقدير، يكمن الحديث عن الشيخ إيهاب يونس، شيخ أزهري وصوت ملائكي إن جاز وصفه بذلك، أسر قلوب الملايين عبر منصات السوشيال ميديا منذ عدة أشهر بأدائه الساحر لرائعة "جينوسيان" للفرقة الألمانية العالمية كايرو ستيبس ومزج المزيكا العالمية لسحر الجاز برائعة الفلكلور الصوفي "يا مالكًا قدري"، وحاز الفيديو المصور للأغنية على ملايين الإعجابات وكان بمثابة تريند في ذلك الوقت في بدايات العام، إلا أنه تشاء الأقدار ويعود يونس إلى منصة التريند بعدها بشهور، ولكن بانقلاب الحال من الانبهار بصوته وقدرته على تحدي إعاقته البصرية وتقديرًا لصوته الخرافي، إلى هجوم ناري وإهانات له، والتهمة بكل بساطة "أم كلثوم".
إيهاب يونس، عضو أساسي في نقابة الإنشاد الديني، وعرف بكونه باحث وإمام ودعوي أزهري له باع طويل في الإمامة بجانب تأسيسه لفرقته الغنائية الخاصة بالإنشاد منذ أكثر من 10 سنوات، ظل محور "الهري" على السوشيال ميديا ووسائل الإعلام خلال اليومين الماضيين بسبب ظهوره كضيف في إحدى البرامج الحوارية المعروفة على إحدى القنوات الفضائية، وغنى "لسه فاكر" لكوكب الشرق أم كلثوم، لتقوم عليه الدنيا ووصلت إلى قرار رسمي من وزارة الأوقاف بوقفه عن الخطابة والإمامة وتحويله لتحقيق النيابة العامة والاكتفاء بكونه باحثًا دعويًا حتى انتهاء التحقيق وخرج بعدها ببيان اعتذار للجمهور، وكل ذلك بسبب غنائه لأم كلثوم مرتديًا الزي الأزهري.
وحدث ذلك في في نفس توقيت "هوجة حفل مشروع ليلى وعلم الرينبو"، والتي تغني فيها مغني الفرقة حامد سنو بأغاني المثلية والشواذ وأهدى أغنية "شم الياسمين" وهي أغنية رومانسية "شمال" لصديقه أمام آلاف الحضور، ولم يعلق أحد عليها واكتفت الهوجة على رفع علم المثليين فقط، وانتهت بمنع الفرقة من الغناء في مصر.
وبدأت الهوجة الكلامية بين شرطة الأخلاق ومدعي الفضيلة إن جاز وصفهمها بذلك، لتنهال التعليقات المؤيدة للقرار والمتهمة للشيخ إيهاب بإهانة الزي الأزهري المقدس من وجهة نظرهم، تحت مسمى "ازاي يغني وهو لابس عمة"، "مكانة الأزهر اتهزت"، واتهامات بالفسق لمجرد تقديمه أغنية ومزجه بين الدين والموسيقى، وبين المنهاضين للقرار ومن تضايقوا لمهاجمة الشيخ، ووجدوا فيها فرصة لتبيان الوجه العصري للأزهر، مع العلم أنه اشتهر بالأساس بعشرات الأغاني التي قدمها بصوته لروائع الفلكلور والإنشاد الديني، وانطلاق شهرته بأغنية قدمها مع فرقة ألمانية مزجت بين الابتهال الديني مع ترانيم قبطية، وحازت نصيب الأسد من الإعجاب والتقدير ولم يعلق أحد وقتها على غنائه واعتلائه مسرح الأوبرا بالزي الأزهري والعمة، لكن "ازاي يغني لأم كلثوم يا جماعة عيب"، علمًا بأن كوكب الشرق في بداياتها كان محبة للابتهال والإنشاد، وسجلت عددًا من سور القرآن الكريم بصوتها ولكن تم منع إذاعته للناس "عشان مايصحش"، في نفس وقت اعتبارها "رمزًا" وحد صفوف المجتمع بأطيافه ودياناته ورؤياه في حفلاتها.
الجرامي