القديسة مريم المجدلية، واحدة من الشخصيات المثيرة للجدل فى التاريخ المسيحى، إذ تم نعتها لقرون طويلة بالمرأة الزانية التى ذكرت فى الكتاب المقدس، وتم إهمال أثارها، وحتى الآن يتم وصف إنجيلها بـ"بالمنحول" ولم يعتمد من جانب أى من الكنائس الشرقية أو الغربية، كذلك "يهوذا الإسخريوطى" الخائن الذى باع المسيح وسلمه للرومان، هو لم يحظى بنظرة مغايرة محاولة تفسير الدافع وراء قيامه بتسليم معلمه وأستاذه يسوع المسيح، لكن يبدو أن فيلم "Mary Magdalene 2018" بطولة رونى مارا، وخواكين فينيكس، حاول تقديم صورة مغايرة لكلا من القديسة مريم المجدلية، ويهوذا.
ويعد تناول أى عمل فنى لشخصية دينية، هى مثار جدل كبير فى التاريخ الدينى والإنسانى، هو أمر مربك، ومثير للتساؤلات الفنية، إذ كيف لا يقع صانع العمل فى فخ التحيز أو التعصب الدينى، وكيف ستنتصر الأدوات الفنية على صوت النزعة الدينية وغياب الموضوعية الطاغى، فهل سينتصر لأفكار سائدة لدى العامة، أم أنه سيحول فنه من أجل وضع تصور يبدو مختلفا عامة هو سائد؟.. لعل كل تلك التساؤلات كانت ما تدور فى مخيلتى عند مشاهدتى لفيلم"Mary Magdalene 2018"، للمخرج جارث ديفيس.
و"Mary Magdalene 2018"، هو فيلم من إنتاج عام 2018، من بطولة رونى مارا (مريم المجدلية)، خواكين فينيكس (يسوع المسيح)، شيوتيل إيجيوفور (بيتر الرسول)، طاهر رحيم (يهوذا)، سيناريو وحوار فيليبا حوسليت وهيلين إموندسون، وإخراج جارث ديفيس، وهو عن قصة القديسة مريم المجدلية؛ المرأة اليهودية التي - وفقًا للنصوص الواردة في العهد الجديد - سافرت برفقة (يسوع) كواحدة من أتباعه، وقالت بلسانها أنها شهدت صلب يسوع وبعثه، إذ كانت حاضرة عند صلبه وذهبت إلى القبر مع اثنتين آخريين فوجدن القبر فارغًا، وفقا لما جاء فى إنجيل مرقس.
الفيلم منذ اللحظة الأولى يبدو مختلفا كليا عن ما نعتها به البابا جريجوريوس العظيم سنة 591م، عندما قارن بينها وبين المرأة الزانية المذكورة فى الإنجيل والتى جاءت فيه الآية الشهيرة "مَنْ كانَ مِنكُم بِلا خَطيئَةٍ، فَليَرْمِها بأوّلِ حجَرٍ"، وظلت طيلة عقود طويلة تحت لقب الزانية التائبة، وظلت هذه الفكرة غير الصحيحة فى مخيلة العامة، حتى جاء البابا يوحنا بولس الثانى ووصفها فى إحدى عظاته برسولة الرسل، كما وصفها كإحدى "النساء اللواتي تبيّن أنهن أقوى من الرسل" عند الصلب، ببقائهن إلى جانب يسوع، كما أن الكرسى الرسولى فى روما، أصدر مرسوماً في 10 يونيو 2016 يرفع تذكار القديسة مريم المجدلية إلى عيد في الروزنامة الرومانية العامة.
الفيلم صور "المجدلية" على إنها الفتاة الطاهرة، صاحبة الروح الصالحة المخلصة، المحبة للجميع والمحبوبة من الجميع أيضا، تلك الفتاة التى اختارت وبكامل إرادتها أن تتبع يسوع المسيح فى رحلته نحو هداية العالم ومحو خطيئة البشر "بحسب المعتقد المسيحى"، وساعدت الملامح الهادئة والبسيطة لرونى مارا فى توصيل الصورة الملائكية للقديسة مريم المجدلية، بما أظهرها بشكل مختلف عن دورها الشهير فى فيلم (الفتاة ذات وشم التنين) الذى أنتج عام 2011، وترشحت عن دورها فى هذا الفيلم للحصول على جائزة الأوسكار 2012.
الفيلم على جانب آخر رد على بعض المزاعم التاريخية حول وجود علاقة جسدية وقعت بين المسيح والمجدلية كالتى جاءت فى فيلم "الإغواء الأخير للمسيح"، ورواية شفرة دافنشى الشهيرة لدان براون والتى أثارت جدلا كبيرا عند صدورها عام 2006، فرغم تصوير اقتراب وإعجاب "مريم" بيسوع من ناحية، واقترابه هو أيضا منها واختياره لها لتكون حاملة سره ومن ثم شاهدته عند القيامة من قبره، إلا أن ذلك لم يكن ليتعدى كونه إعجابا وتقاربا عاطفيا على الأقل من ناحيته، وهو ما تسبب فى غيرة "بيتر" منها، والذي كان يرى نفسه الأحق بالقرب من المسيح، كونه ترك عائلته من أجل اتباعه، وعن سبب اختيار يسوع المسيح لها هى بالذات دون باقى تلاميذه، ولعل ذلك يفسر الخلاف الذى وقع بين التلاميذ، وهو ما جعل المسيح يوبخهم على شكّهم أو قلة إيمانهم أو ترددهم، كما جاء فى الإنجيل.
صورة أخرى يعيد الفيلم رسمها على نحو أكثر اختلافا عما هو سائد، هى صورة يهوذا الإسخريوطى والتى مثلها باقتدار "طاهر رحيم"، حيث يظهر الشاب المحب للمسيح، والمتبع لتعليمه والحالم بالفردوس من أجل لقاء عائلته التى فقدها نتيجة اضطهاد مسيح الناصرة وأتباعه من قبل الرومان، وحتى واقعة إبلاغه عن المسيح جاءت كنزق شاب يحس "المخلص" على خلاص العالم من أجل النعيم ولقاء عائلته الموعود.
خواكين فينيكس، جسد دور المسيح ابن مريم، بصورة رومانتيكية بعيدا عن الصور التى ظهر عليها مسيح الناصرة فى عدد من الأفلام الأخرى ومن بينها "آلام المسيح" وإن كانت مطابقة للإيقونات الكاثوليكية، الفيلم سلط الضوء أكثر على العاطفة داخل يسوع، وصورته الرحيمة بالإنسان والحيوان، ومدى ارتباطه بالمرأة سواء أكانت أمه مريم أو تلميذته مريم المجدلية.
الكادرات السينمائية وزوايا التصوير، مع الإضاءة الخافتة فى الكثير من المشاهد، جاءت متناغمة تماما لسير أحداث الفيلم، خاصة فى مشاهد "المجاميع"، مع العناية الكبيرة بأماكن التصوير سواء فى الكهوف أو القريبة من النهر أو البحيرة، أو بالقدس فى الهيكل، كما كانت حركة اقتراب الكاميرا من وجوه الأبطال مناسبة لإظهار براعة الممثلين، ومناسبة أيضا للسياق التى تدور حوله الأحداث، من أجل توليد صورة روحانية، مساعدة للمعالجة الدرامية للفيلم والذى يعيد الاعتبار للقديسة (المتنيحة) مقدما وجها ملائكى عن شاهدة المسيح.
الموسيقى التصويرية، للموسيقار الأيسلندي يوهان يوهانسون، كانت كلاسيكية معتمد على آلات بسيطة من آلات الأوركسترا، لتخرج بصورة وكأنها جزء من ابتهالات وتراتيل كنسية تعلو وتنخفض طبقا لسير الأحداث، أما الملابس البسيطة والتى اعتمدت فى معظمها على الأقمشة الملفوفة حول الجسم، تبدو مناسبة تماما للحقبة التاريخية التى يتناولها الفيلم، وأن جاءت مبالغة بعض الشئ فى ملابس اليهود فى الهيكل قبل ساعات من صلب المسيح.
فى النهاية تبدو الرؤية التى قدمها الفيلم جيدة ومختلفة، ولم يستسلم للروايات المعتمدة فقط من جانب الكنائس، وحاول سبر أغوار أمور تاريخية هى مسار جدل تاريخى كبير، خاصة فيما يخص "يهوذا" بعدما قدم صناع العمل صورة مغايرة تبرر الدافع وراء فعل "الإسخريوطى" وتقديمه المسيح إلى الرومان، ولعله يعيد ولو جزء بسيط من حق القديسة مريم المجدلية التى طالما حيكت حولها الأكاذيب وطمس حقها لمدة قرون.