فى تلك الليلة.. كان الجو هادئا ناعما.. كل ما فيه يوحى بالجمال والدهشة.. الليل ساد الأمكنة.. والسكون ملأ الشوارع.. وهناك فوق "مصطبة الحكمة" فى ذلك الشارع الطويل بالقرية، جلس "الخال حمادة" كعادته، إنه طويل القامة.. نحيف قليلا.. له وجه فاتح السمرة.. تطل نظراته الهادئة من فوق شاربه الرفيع فى هدوء يدعو إلى احترامه.. وما إن رمقنى قادما من بعيد حتى صرخ بأعلى صوته :"يا واد يا عباس تعالى خد لك نفحة من مصطبة الحكمة"، فذهبت بالطبع.. وسمعت واستمتعت.
جلست بجوار "الخال حمادة" على "المصطبة" التى أعدها خصيصا للنصح والإرشاد والتعلم، إنها تعادل "الجامعة" تعطى دروسا مهمة فى الحياة، يدلل على الواقع بحكايات السيرة الهلالية والحرافيش وأبطال القصص والروايات، وفى أحيان أخرى يروى حكايات مختلفة أمتعنا وهو يتحدث عن تاريخ زفة العروسة وكيف تغيرت من الفراعنة وإلى الآن، ثم ينتقل فى الحديث عن المسحراتى فى الزمن القديم والحديث، وعن الصبية الذين يجوبون الشوارع يطرقون على "علب الصفيح" صائحين :"ونعيش ونصومك يا رمضان"، حكايات "مصطبة الحكمة" لا تنتهى، تأسرك وتسرقك من نفسك وتدخل هذه العوالم الساحرة وانت تستمع الى حكم وعظات الخال حمادة.
وفى اليوم التالى، قررت الذهاب الى "مصطبة الحكمة".. رأيت حوله بعض المريدين، كان "الخال" متجهم الوجه حاد النظرات، ربما كان يفتعل هذا التجهم وهذه الحدة حتى يحذر الوافدين والجالسين بجواره على المصطبة من "التبّلد"، هو يقول إن "التبلد" يضر حالته النفسية وربما يجعله يقبل على الانتحار، لكن سرعان ما عاد الى طبيعته، وبدأ فى سرد حكاية جديدة، وهو هائم فى ذكرياته خلف ابتسامته.